فصل: باب

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***


رؤيا الأنبياء

ولا شك أنه وحي وإن احتاج إلى التعبير، ولذا لما رأى إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام أنه يَذبح ابنه تَشمَّر للذبح، وكان من شأنه كما قصَّه الله سبحانه وتعالى، ولولا أنها وحي لما اجترأ على مثل هذا‏.‏ واعلم أن أهل الكفر كانوا يذبحون أولادهم تقرُّباً إلى الله، ولم يكن هذا في دين سماوي قط‏.‏ وتأويل رؤياه ما وقع منه فحسب، وبه تمّ الاختبار والابتلاء، ولم يكن الذبح مراداً من أول الأمر، فلما صدَّقه وامتثل به وأجراه على ظاهره، ناداه ربه‏:‏ ‏{‏أنْ يا إبراهيمُ قد صدَّقتَ الرؤيا‏}‏ ‏(‏الصافات‏:‏ 105‏)‏، ثم فداه بكَبْشٍ، فإن شاكلةَ وحي الرؤيا على خلاف شاكلة الوحي الصريح، فإنه قد يكون أُنموذجاً يكفي لصدقتها في الخارج نحو من الوجود، لا كما قال الشيخ الأكبر‏:‏ إن إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام كانَ مأموراً بذبح الكَبْش من أول الأمر، ولكنه شدَّد على نفسه، وأراد أن لا يُؤَول رؤياه، بل يُجربها على ظاهرها، فكشف الله سبحانه عن مراده‏:‏ أنه ذَبْحُ الكَبْش‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ‏}‏ عنده أي أمضيتها على ظاهرها، مع أن المراد منها ما كان هو ذبح الكَبش، دون ذبح الولد‏.‏ فإن الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام، أقرب فهماً لهذه الأمور من الأولياء والصواب أنها تحتاج إلى التعبير كرؤيا يوسف عليه الصلاة والسلام وكرؤيا نبينا صلى الله عليه وسلّم في دار هجرته، فذهب وهْله إلى أنها اليمامة وكانت هي المدينة، وفي هزيمة المسلمين، ثم في فتحهم،‏.‏ فرأى سيفاً، هَزَّها مرة فانقطعت، ثم هَزَّها مرة أخرى فعادت كأحسن ما كانت، وفي كَذَّابَيْن حيث رأى في يديه سواران من ذهب، وفي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أُرِيْهَا في سَرَقَةٍ من حرير وغيرها‏.‏ وما نقل في واقعة الحُدَيْبِيَة فافتراء محضٌ ليس له إسناد ولو ضعيفاً‏.‏

اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلّم واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلّم ينتظر الوحي في الأمور كلها، فإذا لم ينزل عليه وَدَعَتْ له حاجة اجتهد‏.‏ ثم لا يُتْرَكُ على الخطأ لو وقع فيه، ولا يَسْتَقِرُّ عليه حتى الموت قط، وهو تأويل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من رسول ولا نبي إلا إذا تمنَّى ألقَى الشيطانُ في أُمْنِيَّتِه‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ ‏(‏الحج‏:‏ 52‏)‏ وسنعود إلى تفسيره إن شاء الله تعالى‏.‏ وما ذكره المفسرون من القصص ههنا فكلُّها باطلة‏.‏ وقول إبراهيم عليه الصَّلاة والسلام ‏{‏هَذَا رَبّى‏}‏ ‏(‏الأنعام‏:‏ 76‏)‏ من هذا القبيل عندي‏.‏ والناس ذكروا عنه وجوهاً من رَطْبٍ ويابس، وما نُلْقِي عليك الآن هو أنه لم يكن هناك شيء في الخارج، بل السلسلة كلها حكاية عن انتقالاته التدريجية الفكرية، حتى انتهى إلى العِلم الحقيقي‏.‏ ولم يكن لهذا المعنى لفظ يؤدي مؤدَّاه، فسبق الوَهْم من مجرد التعبير إلى ما سبق، وكان المراد منه هو التدرّج، ولذا كرر قوله‏:‏ ‏{‏هَذَا رَبّى‏}‏ ثلاث مرات‏.‏ معناه‏:‏ أنه اجتهد في أنه ربه أم لا‏؟‏ ثم اجتهد واجتهد حتى تبيَّن له أنَّ مَنْ كان محطاً للتحوُّلات، ومحّلاً للتغيرات، وآفلاً بعد كونه طعالعاً، ومُظلماً إثْرَ كونه مضيئاً ومستضيئاً، لا تليق به الأولوهية، فتبرَّأ منه حنيفاً مسلماً‏.‏ ولفظ الاجتهاد حادثٌ، والتدرج لم يكن في الخارج بلفظ، ولكنه نية على نحو التقادير، وما المانع عنه عند ظهور الحُجة شيئاً فشيئاً، فإبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام ما كان له أن يعتقد بقوله‏:‏ ‏{‏هَذَا رَبّى‏}‏، ولكنْ تَدرجَ نحو العلم الحقيقي شيئاً فشيئاً حتى بلغ إلى حقيقة العِلم، ولم يستقر على ما يلوح من ظاهر الألفاظ، ولو كلمحة برقٍ خاطفٍ، فاعلمه‏.‏

الرؤيا الصالحة في النوم

وعند المصنف في التعبير‏:‏ «الرؤيا الصادقة»‏.‏ وبينهما فرق ظاهر، فإن رؤيا الأنبياء لا تكون إلا صادقة‏.‏ وقد تكون غير نافعة، كرؤياه صلى الله عليه وسلّم في أحد‏:‏ وإنما بُدىء بذلك ليكون له تمهيداً وتوطِئةً لما يكون في اليقظة‏.‏ كتسليم الحجر عند مسلم، وكسماع الصوت عند بناء الكعبة أن‏:‏ «اشْدُدْ عليكَ إزارَكَ» وهو في البخاري عن جابر، وهذا الصوت عندي صوت المَلَك، وكرؤية الضوء، وكلها لتقريبه إلى عالم الرُّوحانيات وعالم الغيب‏.‏

3- ‏(‏فَلَقِ الصبح‏)‏ قال ابن أبي جَمْرَة‏:‏ إنما شبهه به دون غيره؛ لأن شمس النبوة كانت الرؤيا مَبَادىء أنوارها، فما زال ذلك النور يتسع حتى أشرقتِ الشمس، فمن كان باطنه نورياً كان في التصديق بَكْرِياً كأبي بكر، ومن كان باطنه مظلماً كان في التكذيب خفَّاشاً كأبي جهل، وبقية الناس بين هاتين المنزلتين، كل منهم بقدر ما أُعطي من النور‏.‏ كذا في «الفتح» من كتاب التعبير‏.‏

3- ‏(‏ثم حُبِّبَ إليه الخلاء‏)‏ وهذا على نحوٍ من مجاهدات الصوفية وخلواتهم ثم إن اعتكاف الفقهاء وخلوات الصوفية عندي قريب من السَّواء‏.‏ والفرقُ من جهة تعيين الأيام‏.‏

3- ‏(‏اللياليَ ذَوَاتِ العَدَد‏)‏ وأُبهم العددُ لاختلافِهِ‏.‏ وفي تفسير «روح المعاني»‏:‏ عن الصفيري أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يذهب إلى حِراء في رمضان، ويمكث إلى أربعين يوماً‏.‏ قلت‏:‏ أما ذهابه في رمضان فقد تحقق عندي‏.‏ وأما مكثُهُ إلى الأربعين فلم أقف عليه سوى ما ذكره الصفيري‏.‏ ولا أدري حاله‏؟‏ وقد تحقق عندي أنه كان يذهب خارج رمضان أيضاً، كما يُستفاد الإكثار من هذا الحديث‏.‏

وأما وجه خَلوته في حِرَاء خاصة‏.‏ فكما عند الحافظ في التعبير‏:‏ عن ابن أبي جمرة، أن المقيمَ فيه كان يمكنه رؤية الكعبة، فيجتمع لمن يخلو فيه ثلاث عبادات‏:‏ الخلوة، والتعبد، والنظر إلى البيت‏.‏ وفيه أيضاً‏:‏ أن جدَّه عبد المطلب كان يخلو به أيضاً، وكان على الفِطرة، ويمكن أن يكون على الحنيفية‏.‏ وتِنْقَلُ من كلماته ما يدل على إقراره بالقيامة، وأخلاقه الحسنة، وكان أُخْبِرَ بنبوته صلى الله عليه وسلّم بأن ابنه هذا يكون له شأن من الشرق إلى الغرب، وعلى هذا أمكن أن يكون ناجياً، إلا أنْ يثبت عنه الشِّرك وعبادة الأصنام‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

3- ‏(‏جَاءَهُ الحقّ‏)‏ أي جبرائيل عليه السلام، أو المراد أنه انكشف له الحال الآن، وتحقق جلياً أن سماعَ الصوت ورؤية الضوء وسلام الحجر وغيرها، كان تمهيداً للأمر الذي بُعث به‏.‏

‏(‏اقرأ‏)‏ ليس من باب التكليف، بل من باب التَّلقين والتلقي لما يقوله، كما إذ يَحْضُر الصبيُّ قِبَل المعلِّم وكتابُهُ معه، فيقول له أستاذه‏:‏ اقرأ، لا يريد بذلك تكليفه بالقراءة، ولكنه يكون تلقيناً له أن أقرأ كما أقرأ لك الآن‏.‏

3- ‏(‏ما أنا بقارىء‏)‏ واختُلف في هذا التركيب إنه مفيد للقصر أم لا، وذهب السكَّاكي إلى أنه يُفيد القصر، وهو المختار عندي، ولكنه ليس بمطَّرِد‏.‏ قيل‏:‏ ‏(‏ما‏)‏ في المرة الأولى نافية، أي لستُ بقارىء، وفي البواقي استفهامية، أي أيَّ شيء أقرأ‏؟‏ والأرجح عندي أنها كلها نافية، وترجمته‏:‏ مين وه شخص نهين جس سى قراءت هوسكى‏.‏

3- ‏(‏فعظَّني‏)‏ ذكر العلماء‏:‏ أنه كان ضَرْبَاً من التنبيه‏.‏ وقال الصوفية- كَثَّرهم الله تعالى ‏:‏ إنه كان للإلقاء في القلب، وللتقريب إلى المَلَكِيّة وإحداث المناسبة بها، وفيه أن للمعلِّم حقاً على المُتعلِّم‏.‏

فقال‏:‏ اقرأ بسم ربك‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ وإنما أضاف لفظ الاسم ولم يقل‏:‏ اقرأ بربك، تبرُّكاً باسمه تعالى، فكما أن ذاتَه مَجْمَعُ البركات، كذلك صفاتُهُ وأسماؤه تعالى، فأدخل لفظَ الاسم وتبرَّك به إيذاناً بذلك، وإنما بدأ بالقراءة لأنها الأهمُّ إذ ذاك، وأما اسمُ الله تعالى فيصلحُ لبداية جميع الأمور، وليس له اختصاصٌ بشيء دون شيء‏.‏

الكلامَ في أولِ السُّورِ نُزُولاً

واعلم أنه اختُلف في أول ما نزل من القرآن، فقيل‏:‏ وهو الصحيح‏:‏ أنه‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ‏}‏، وهو الظاهر من هذا السياق، وله أدلة أخرى، مذكورة في موضعها‏.‏ والقول الثاني‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ‏}‏، ويُؤيده ما في الصحيحين، عن أبي سَلَمة عن جابر‏:‏ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يُحدِّث عن فترة الوحي، فقال في حديثه‏:‏ «بينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء، فإذا المَلَكُ الذي جاءني بحِراءَ جالسٌ على كرسي بين السماء والأرض، فرجعت فقلت‏:‏ زمِّلوني فدثَّروني، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ‏}‏‏.‏

والجواب عنه بوجوه، منها‏:‏ أن المراد منه نزولُهَا بعد زمنِ الفترة، كما يؤيده السياق‏.‏ وقوله‏:‏ فإذا المَلَك الذي جاءني بحِراء أيضاً يدلُّ على سابقيةِ عَهدٍ وتقدُّم خبرٍ‏.‏ ومنها‏:‏ أنه اجتهاد من جابر وليس مرفوعاً، وهو الأصوب عندي‏.‏ والتوفيق عسير جداً، وبه قال الكرماني كما في «الفتح» في سورة المدثر‏.‏ والقول الثالث‏:‏ الفاتحة، وله مُرْسَل عند البيهقي‏.‏ قال البيهقي‏:‏ إن كان محفوظاً فيحتمل أن يكون خبراً عن نزولها بعد ما نزلت عليه «اقرأ» و «المدثر»‏.‏

والجواب أن يُلْتَزَمَ بتعدُّدِ نزولها، فلعلها نزلت أولاً بغير صفة القرآنية، ونزلت أخرى بصفتها‏.‏ وفي «الإتقان» رواية في ترتيب السور مسلسلة بأئمة النحو، فأمعنت فيها النظر، فبدا لي أنه قد سرى في هذا الباب اجتهاد، فالطرد والعكس عليه مشكل‏.‏ ثم ههنا نُكتةٌ نبّه عليها الحلبيُّ في سيرته، وكأنه أراد منها تأييداً لمذهب الحنفية أن الفاتحة إذا لم تنزل أولاً، فكيف يكون حَال الصلوات عند من جعلوها ركناً‏.‏

هل التَّسمية جزءٌ من كلِّ سُورة‏؟‏

فقال الشافعية‏:‏ إنها جزء من كل سُورة وجزءٌ من الفاتحة أيضاً‏.‏ وقال الحنفية‏:‏ إنها ليست جزأً للفاتحة، ولا من كل سورة، قيل‏:‏ أول مَنْ كتب هذه المسألة منا هو أبو بكر الرَّازي، وليست منقولة عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى‏.‏ قلتُ‏:‏ ومن رآها مكتوبةً بين كل سورتين يَحْكُمُ ذِهْنُه إلى أنها آية نزلت للفصل بين السور، كما ذكر في «الكنز»‏.‏ واعتُرض على الشافعية أن التسمية لو كانت جزءاً من كل سورة نزلت هناك أيضاً‏.‏ وأجاب عنه الشافعية أولاً‏:‏ بأن مضمون التسمية قد أُدِّيت في ضمن‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ‏}‏ وثانياً بأنها صارت جزأً بعد نزولها وهو كما ترى، فإن الكلام في صيغة التسمية لا في معناها‏.‏

3- ‏(‏حتى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ‏)‏ رُوي بنصب الدال ورفعها‏.‏

3- ‏(‏يَرْجُفُ فُؤادُهُ‏)‏ وفي «نوادر الأصول» للحكيم الترمذي- وهو غير الترمذي صاحب «الجامع» ‏:‏ أن القلب خاص، وهو موضع الإدراك، والفُؤاد يُطْلَق على وعائه‏.‏ قال الشيخ الأكبر‏:‏ إنه حنفي والخشية إنما كانت بالعجز عن حمل أعباء النبوة، وإنما لم تضطرب خديجة رضي الله عنها لأنها لم تكن صاحب الواقعة، وفَرْقٌ بين مَنْ يدخل في الشيء ويكون صاحبَة الواقعة، وبين من يسمعها من وراء وراء‏.‏

3- ‏(‏زَمِّلُونِي‏)‏ ولا يذهب وَهْلُك إلى نزول المُزَّمِّل في هذه القصة، نظراً إلى مجرد اشتراك اللفظ، فإنه متأخر قطعاً‏.‏

3- ‏(‏ما يُخْزِيك الله‏)‏ أصلُ الخْزِي أن يفوَّض أمرٌ إلى رجل فلا يستطيع حمله فيتركه، فيُعَدُّ غُمْراً بين الناس وغيرَ أهل له‏.‏

3- ‏(‏تَكِسب‏)‏ بفتح التاء وضمها أيضاً، والأول أفصح، وحينئذٍ يتعدى إلى مفعولٍ واحد، وعلى الثاني إلى مفعولين، أي وتَكْسِبُ الفقيرَ المعدومَ، أي المال‏.‏

3- ‏(‏تَحْمِل الكَلَّ‏)‏ أي الغرمات‏.‏ وقولها‏:‏ ‏(‏وتُعين على نوائب الحق‏)‏ كلمة جامعة لما تقدم وما لم يتقدم‏.‏ كان بنو هاشم قد اشتهروا بهذه الأوصاف، ولذا قال لهم أبو طالب في قصيدته‏:‏ يا قريش، إنما تقاطعون أُناساً بلغ مواساتهم إلى بكر بن وائل‏.‏

3- ‏(‏ابنَ عَمّ‏)‏ فيه تَجَوُّز، لأنهم كانوا يتوسَّعون في بيان الأنساب‏.‏

3- ‏(‏العبراني‏)‏ سُمِّي به لأن إبراهيم عليه السلام كان اختاره بعد عبوره من العراق إلى الشام‏.‏ وفي نُسخة‏:‏ «العربي» وهما شعبتان من أصل واحد، فلعله كان يكتب العربي أيضاً، وكذا السُّرياني منسوب إلى السريا وهو الشام‏.‏ وبالجملة كان لسان اليهود العبراني، والتوراة والإنجيل كلاهما كانا بالعبري‏.‏ أما التوراة العبرية فتوجد اليوم أيضاً، ولا يوجد أصل الإنجيل العبري‏.‏ نعم، توجد تراجمه مع اختلاف فاشٍ بينها، وقد أقرُّوا أنه ليس من إملاء عيسى عليه السلام، ولكن جُمِع بعده بسنين‏.‏ وجَمَعَ ملك من القسطنطينية نُسخة منه وسمّاها‏:‏ سبعينية، وجمع فيها عقائد النصارى‏.‏ ورأيت شارحاً من شرّاح الإنجيل يقول‏:‏ إني كتبت هذا الشرح بعد مطالعة تسع مئة شرحاً‏.‏

3- ‏(‏النَّاموس‏)‏ أي مُبلِّغ الخير، وهو ضِدُّ الجاسوس‏.‏ والآن يستعمل بمعنى القانون‏.‏ يقال‏:‏ نواميس النور، أي قوانيها‏.‏ ‏(‏أنزل الله على موسى عليه السلام‏)‏ وهذا كما في القرآن‏:‏ ‏{‏إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً‏}‏ ‏(‏المزمل‏:‏ 15‏)‏ وإنما أحال على موسى عليه السلام مع كونه نصرانياً، لأن الشريعة الجامعة عندهم هي شريعته‏.‏ أما الإنجيل فقالوا‏:‏ إنه من تتمته‏.‏ وإنما نزل عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام للتزكية فقط‏.‏ قلت‏:‏ وهو باطل بنص القرآن، فإنه صريح في أنه نَسَخَ بعضاً من التوراة، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاِحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 50‏)‏‏.‏ وكذلك يوم عيدهم، كان الأحد بدل السبت‏.‏ وكذلك ليس في الإنجيل الختنة‏.‏ ثم إن الخنزير كان حراماً في التوراة، والنصارى يُنْكِرُون حرمته‏.‏

قلتُ‏:‏ وليس في الإنجيل حِلُّ الخنزير أصلاً، بل هو حرام في شريعة عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام أيضاً‏.‏ ولذا يقتله بعد نزوله‏.‏ وكان قَتَلَه عند ذهابه إلى بيت المقدس أيضاً، فكيف قالوا بِحِلِّهِ‏؟‏ ‏{‏إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 7‏)‏‏.‏ والوجه فيه‏:‏ أن ما حُرِّم في التوراة هو كل ذي ظُفُر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ ‏(‏الأنعام‏:‏ 146‏)‏، فاختلفوا في تفسيره فجعله اليهود من ذي ظفر، بخلاف النصارى فأحلوه، وغلِطوا في ذلك قطعاً، كما علمت أن عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام قَتَلَه حين ذهب إلى بيت المقدس‏.‏ وسيقتله بعد النزول أيضاً‏.‏ فالحاصل‏:‏ أنه أيضاً نبيٌ مرسلٌ ذو شريعةٍ، ولكنها كانت شريعة كالتتمة للتوراة‏.‏ ثم في بعض لفظه «ناموس عيسى» أيضاً وقد وجهه الحافظ، فراجعه‏.‏

3- ‏(‏يا ليتني فيها جَذَعَاً‏)‏ كأنه تمنى أن يكون عند ظهور الدَّعوة إلى الإسلام شاباً، ليكون أمكن لنصره‏.‏ وبهذا تبين سِرُّ وصفه بكونه كان‏:‏ «شيخاً قد عَمِيَ»‏.‏ قال الحافظ‏:‏ ويظهر لي أن التمني ليس مقصوراً على بابه، بل المراد من هذا التَّنبيه على صحةِ ما أخبَرَه به، والتنويه بقوة تصديقهِ فيما يجيءُ به‏.‏

3- ‏(‏فتر الوحي‏)‏ وفتوره عبارة عن تأخُّره مُدَّة، وكان ذلك ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلّم وَجَدَهُ من الرَّوع‏.‏ واختُلِف في زمن الفترة كم كان‏؟‏ وكان ينزلُ إسرافيل عليه السلام في تلك المُدة ويُسَلِّيه، ويُقَوِّي روحانيته، لأن له مناسبة مع الأرواح ولذا قالوا‏:‏ أن الأرواح بعد مفارقتها عن الأبدان تسكن في الصُّور، ومنها تخرج إلى أبدانها عند نفخه فيها، وأما جبريل عليه الصَّلاة والسلام فله مناسبةٌ تامة مع عالم الشهادة، ولذا كان ينزل بالوحي‏.‏

وَرَقَةُ وإسلامه

واتفقوا على إيمانه، حتى إن بعضاً منهم عَدُّوه في الصحابة رضي الله تعالى عنهم‏.‏ نعم، كونه من هذه الأمة محلَّ تردُّد، فإنه تُوفِّي قبل ظهور دعوته‏.‏ ويشهدُ لإيمانه رؤياه صلى الله عليه وسلّم حيث رآه في ثياب بيض، ثم لا يكون مقدَّماً على خديجة رضي الله تعالى عنها، والصِّديق الأكبر رضي الله تعالى عنه، بل يوضع بعدهما، فإنهما أسلما في زمن رسالته بدون تردد، بخلاف ورقة‏.‏ واستحسنه الشيخ الأكبر أيضاً‏.‏

4- ‏(‏قال ابن شهاب‏)‏ قيل‏:‏ إنه تعليق‏.‏ وقال الحافظ‏:‏ بل هو موصول بعين هذا الإسناد، ولكن ليست القِطْعَةُ المذكورة عنده عن عروة، بل هي عن أبي سَلَمَة، فهذا تحويل لا تعليق‏.‏ ثم التحويل على نحوين‏:‏ الأول‏:‏ أن يتغاير الإسناد في الأول ويتَّحِد في الآخر، وهو أكثر‏.‏ والثاني عكسه، بأن يتَّحِدَ الإسناد في الأول ويتغاير في الآخر‏.‏ وهذا النوع نادر، وهو المتحقق ههنا‏.‏

4- ‏(‏فأنذر‏)‏ قيل‏:‏ كان نبياً والآن صار رسولاً أيضاً‏.‏ قلتُ‏:‏ ولا أدخل في مثل هذه الأمور‏.‏

4- ‏(‏وربَّكَ فكَبِّر‏)‏ استدل به الحنفية‏:‏ أن مُطلق الذِّكر المُشْعِر بالتعظيم يكفي للدخول في الصلوات، لأن قوله‏:‏ «كبِّر»، معناه عظِّم، فالمأمور به هو مطلق التعظيم بأي صيغة كان، لا خصوص صيغة‏:‏ الله أكبر، ولا سيما إذا ورد في سياق الصلاة، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلَّى‏}‏ فالسياق سياق الصلاة‏.‏ والظاهر من الذكر هو الذي للشروع في الصلاة‏.‏ فهذا دليل واضح على أن الضروري هو مطلق الذكر كما قلنا‏.‏ وأجاب عنه ابن المُنَيِّر- وهو ركيك ، وقال‏:‏ إن الإضافة في ذكر اسم ربه للعهد، فالمراد هو الصيغة المعهودة، أي‏:‏ الله أكبر‏.‏ وهو كما ترى نداء من بعيد‏.‏ نعم، لك أن تقول‏:‏ إنّ كبر ليس تفعيلاً من كبَّر المجرد، بل هو قصر من جملة‏:‏ الله أكبر، كَ‏:‏ سَبْحَلَ وهَلَّل من قوله‏:‏ سبحان الله، ولا إله إلا الله‏.‏ فإذاً لا يكون التكبير معناه التعظيم مطلقاً، بل يكون معناه هو القول ب‏:‏ الله أكبر‏.‏ ولا يثبت ما أراده الحنفية رحمهم الله تعالى‏.‏

ثم ههنا تتفيش ويقتضي تمهيدَ مقدمة وهي‏:‏ أن النُّحَاةَ جعلوا ‏(‏كَبَّر‏)‏ قصراً من اللَّهُ أكبرُ، مثل سَبْحَل، وجعلوهما من وادٍ واحد، وهو عندي خطأ للفرق الجلي بينهما، لأن كبّر لفظ يفيد معنى بنفسه، بخلاف حَوْقَل وسَبْحَل، فإنه لا معنى له في نفسه، فوجب أن يُجعل قصراً من الجملة، بخلاف كبّر، فإنه موضوعٌ ومفيدٌ لمعنى بنفسه، ولا ضرورةُ فيه إلى أخذه من الجملة‏.‏

والوجه فيه عندي أنه مأخوذ من جزء الجملة أي من أكبر في قوله‏:‏ الله أكبر، وليس مأخوذاً من الجملة كمجرب ومرغن، وملبب ‏(‏بالأردية‏)‏، بخلاف حَوْقَل، فإنه مأخوذ من مجموع جملة‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا بد‏.‏ وإذا اتضح الفرق بينهما فالأولى أن يُفَرَّق في التسمية أيضاً ويُسمَّى مثل سَبْحَل نحتاً، لكونه منحوتاً من الجملة‏.‏ ويسمى مثل كَبَّر وسَبَّح قصراً لكونه مأخوذاً من جزئها، فإن سبح مأخوذ من سبحان في قوله‏:‏ سبحان الله‏.‏ فالخطأ إنما هو ممن سمى الأخذ من مجموع الجملة قصراً، مع أنه ينبغي أن يسمى بالنحت، وهذا بالقصر‏.‏

ثم اعلم أنه لا بد في التفعيل من ذكر المفعول، بخلاف النحت‏.‏ فإن المفعول يدخل في نفس مفهومه، فسبَّح يحتاج إليه، بخلاف سَبْحَل، فإنه صار لازماً واستغنى بمفعولٍ في معناه عن ذكر مفعول آخر‏.‏

وإذ قد علمتَ‏:‏ أن القصر ما يكون مأخوذاً من جزء الجملة لا من مجموع الجملة، لم يبق دليل في قوله كَبَّر على خصوص الصيغة، وصار معناه مطلق التعظيم‏.‏ وكذا جاز لك أن تقول‏:‏ معنى قوله ‏{‏وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 185‏)‏ ولتُعَظِّموا الله على ما هداكم، ومع هذا لا أُغَيِّر المسألة ولا أدَّعي أن المأمور به مطلقُ التعظيم بأي صيغة كان‏.‏ وإنما تكلمتُ في تحقق المدلول وبيان اللغة فقط، مع بقاء المسألة بحالها، فإن اللفظ وإن صار صالحاً للعموم، إلا أن التعامل قد تواتر على صيغة الله أكبر قُبَيل الصلاة، وفي العيدين‏.‏ ولم يَرِد في العمل غيرُهُ، والتعامل هو الفاصل في تعيين المراد عندي‏.‏ فينبغي أن يُترك وجوب الصيغة وسُنِّيتَها تحت مراحل الاجتهاد، فإنه لا بحث لنا في العمل، لأن الحنفية كافة لا يشرعون صلواتهم إلا بتلك الصيغة، وإنما البحث في الأنظار فقط، فَلْيَكِلْهُ إلى الاجتهاد لا سيما إذا اختار ابن الهُمَام رحمه الله وجوبَهَا‏.‏ ونُقِل عن الإمام الأعظم أنَّ مَنْ ترك التكبير، أي الصيغة المخصوصة، فقد أساء، فماذا بعده إلا الجدال‏.‏ وسيجيء للمسألة أشياء أُخَر في موضعه‏.‏

ثم إن قوله‏:‏ ‏{‏وَرَبَّكَ فَكَبّرْ‏}‏ إشارة إلى الصلاة، وقوله‏:‏ ‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ‏}‏ إشارة إلى اشتراط الطهارة، ‏{‏وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ‏}‏ قالوا‏:‏ أي الأصنام فاهجر‏.‏ قلت‏:‏ وعلى هذا لا يبقى له تعلق بمسألة الصلاة إلا أن يقال معناه‏:‏ استمر على هجر الأصنام عند الصلاة وغيرها‏.‏ ويكون المطلوب ههنا من الأمر هو دوام الهجران لا نفس الفعل‏.‏ كما قرروا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ‏}‏، والأَولى أن يُجْعل إشارة إلى طهارة المكان‏.‏ كما أن الجملة الأُولى إشارة إلى طهارة الثياب، فتتعلق الجملتان بالصلاة، ويتسق النظم‏.‏

تنبيه‏:‏ واعلم أن الصلاة فريضةٌ عندي من أول أمر النبوة، نعم ما زالت تتحول صفاتها من حال إلى حال إلى أن آل الأمر إلى الخمس ليلة المعراج‏.‏ ومعنى فرضية الخَمْس فيها بيان عدد المجموع مما فُرِض فيها مع ما قبلها‏.‏ ثم أُمِدَّ بصلاة هي خير من خُمْر النَّعَم‏.‏ وإذاً لا تأويل عندي في الآيات التي ذُكِرَت فيها الصلاتان فقط، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ‏}‏ ‏(‏ق‏:‏ 39‏)‏ فإنهما صلاتان فُرِضَتَا أولاً ثم زِيدت عليهما‏.‏ وكذلك أجدهما قد صُلِّيتا بعين شاكلة الفريضة قبل فرضية الخَمس أيضاً، كما عند البخاري‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلّم صلى الفجر ببطن نخلة وَجَهَر فيها بالقراءة، وهي بعينها شاكلتها بعد فرضيتها‏.‏ واتفقوا أيضاً على ثبوتهما إلا أنهم قالوا بكونهما نفلاً‏.‏ وعندي لا دليل عليه‏.‏

فالحاصلُ‏:‏ أنه لا خلاف في ثبوت الصلاتين من بدء الأمر كما في السير بإسناد فيه ابن لَهِيْعَة‏:‏ أن جبرائيل عليه الصَّلاة والسَّلام علَّمه الوضوء عند نزول أوائل ‏{‏اقْرَأْ‏}‏ وعلمه الصلاة أيضاً‏.‏ وابن لَهِيْعة عالم كبير احترقت كُتُبه، ثم كان يروي من حفظه، فاختلط فيها، فرواياته قبل الاحتراق مقبولة‏.‏

واستمر على ما يَرِدُ عليه والأجوبة عنه‏:‏ ‏(‏تابعه عبد الله بن يوسف‏)‏‏.‏

باب

واعلم أن في المتابعة أربعة أشياء‏:‏ المُتَابِع، والمتابَع، والمتابَع عنه، والمتابَع عليه‏.‏ والبخاري يتفنَّن في ذكر المتابعات، فتارة يقول‏:‏ تابعه فلان، وأخرى‏:‏ تابعه عن فلان‏.‏ فليعلم الفرق بينهما، فالفرق بين الأَوَّلين ظاهر، «وعنه»‏:‏ هو ذلك الشيخ، «وعليه»‏:‏ هو اللفظ، فعبد الله بن يوسف ههنا متابع ‏(‏بالكسر‏)‏، ويحيى بن بُكَير الراوي شيخُ البخاري متابَع- بالفتح ، والليث متابَع عنه‏.‏

ثم المتابعَة إما تامة أو ناقصة، وقد بينها العلماء في أصول الحديث، وكذا المتابعة غيرُ الشاهد والفرق بينهما مذكور في «النُّخْبة» وغيرها من كتب الأصول‏.‏

وفي هذا الحديث صفة أخرى للوحي‏.‏

5- ‏(‏وكان مما‏)‏ قيل‏:‏ مركب من «من» و «ما»، وقيل‏:‏ «مما» بمعنى ربما، مركباً كان أو مفرداً، واستشهد له بقول الحماسي‏:‏

وإنما لمَمِا نضربُ الكبش بيضة‏.‏

5- ‏(‏لتعجل به‏)‏ من باب تلقي المخاطبَ بما لا يترقب، فإن النبي صلى الله عليه وسلّم إنما كان ينازِع جبريل عليه السلام في القراءة، ولا يصبر حتى يُتِمَّها لمسارعته إلى الحفظ لئلا يتفَلَّتَ منه شيء، لا لأنه كان يستعجل ليستريح عن مشقة الحفظ ولا يقاسي تعبه فيما بعد، ولكنه تلقَّى بما لا يترقبه إظهاراً لعدم ابتغاء التحريك مع قراءته، وتعليماً لحسن الاستماع، وتأديباً لأمر القراءة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 114‏)‏‏.‏

5- ‏(‏جَمْعُه لك في صدرك‏)‏ وفيه اختلاف النسخ، والأفصحُ عندي أن يكون ‏(‏جمعه‏)‏ مصدراً‏.‏

5- ‏(‏قال‏:‏ فاستمع له وأَنْصِتْ‏)‏ واعلم أن الإنصاب والاستماع يقتصران على الجهرية، فإن ا لإنصاب مقدمة للاستماع ومعناه التهيؤ للاستماع‏.‏

5- ‏(‏ثم إنّ علينا بيانَه‏)‏ قد وقع ههنا سوء ترتيب من الراوي‏:‏ فذكر ‏(‏أن تقرأه‏)‏ في تفسير ‏(‏بيانه‏)‏ وهو وَهمٌ منه، لأنه تفسير لقوله‏:‏ ‏{‏وقرآنه‏}‏ لا لقوله‏:‏ ‏{‏بيانه‏}‏، فنقل تفسير هذا إلى هذا، ويشهد له ما أخرجه البخاري في «التفسير» متناً وسنداً وفيه‏:‏ ‏{‏قرآنه‏}‏، أي أن تقرأه ‏{‏وبيانه‏}‏، أي أن تبينه على لسانك‏.‏ وهذا واضح في المراد، فلا تلتفت إلى التأويلات‏.‏ ثم اعلم أن القرآن معناه اتساق النَّظْم، يقال‏:‏ ليس لشعره قرآن بندش، ومنه سُمي القرآن قرآناً عندي‏.‏

5- ‏(‏لا تحرك به لسانك‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، تكلَّم الناس في ربطه، فإن أوَّله وآخره في ذكر أحوال القيامة، وحينئذٍ قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تُحَرّكْ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ لا يظهر له كثيرُ ربط، فقيل‏:‏ لعلَّ النبي صلى الله عليه وسلّم حَرَّك شفتيه عند نزوله فنُهي عنه‏.‏ وقد تعرَّض إليه الرازي إلا أنه لم يأتِ بالجواب الشافي‏.‏ وقد عُرِف من عادته أنه يَبْسُط في الإيراد ويُجْمِل في الجواب، ولذا اشتهر عنه أنه يعترض نقداً ويُجِيب نسيئة‏.‏

وقد فتح الله عليَّ جوابَه، ولا بد له من تمهيدِ مقدمةٍ وهي‏:‏ إن القرآن قد يكون له معنى بالنظر إلى سياقه، فإذا نُظِر إلى شأن نزوله يظهر منه معنى آخر‏.‏ فالوجه في مثله عندي أن يَحْمِل ما يُفْهَم من النَّظْم مرادَه الأَوَّليّ، وما يُفْهَم من النظر إلى الخارج مرادَه الثانوي، وقَصْرُ القرآن على شأن نزوله ليس بوجيه عندي، ولم أر أحداً منهم صرح بالمراد الأوَّليّ والثانوي إلا مصنفٌ في «حاشية التلويح» حيث قال‏:‏ إن للخمر إطلاقين، فما قاله الحنفية رضي الله تعالى عنهم مرادٌ أَوَّلِي، وما ذكره الشافعية أنَّ كلَّ مُسْكِر خمرٌ، فهو مرادٌ ثانوي‏.‏ وكانت المسألة من علم الأصول، فعلى العلماء أن يَبْحثوا في أن نظم القرآن إذا أُعطِي معنىً ثم جاء الحديث يحمله على خلافِهِ، فهل يُعْتَبَر بنظمِ النص أو الحديث‏؟‏

والذي ظهر لي فيه أن يُجعل مراداً أولياً وثانوياً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 230‏)‏ إلخ قال الشافعية‏:‏ إنه يتعلق بصدر الكلام، أي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الطَّلَقُ مَرَّتَانِ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ ‏(‏البقرة‏:‏ 229‏)‏ وجعلوا ذكر الخُلْعِ جملةً معترضة، والخُلُع فسخٌ عندهم‏.‏ وقال الحنفية رضي الله تعالى عنهم‏:‏ إنه يتعلق بما قبله، وقالوا‏:‏ إن القول تعلُّقه بصدر الكلام مع إمكان بتعلقه بما قبله فكذلك في النظم‏.‏ قال الشافعية رحمهم الله تعالى‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَنٍ‏}‏ طلاقٌ ثالث لما عند أبي داود أن رجلاً سأل عن الطلاق الثالث، فقال‏:‏ هو تسريح بإحسان، وحينئذٍ لو قلنا‏:‏ إن قوله ‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ يترتب عليه، لَزِمَ أن يكون هذا الطلاق رابعاً‏.‏

قلتُ‏:‏ التسريح بالإحسان تركُ الرَّجْعَة، وهذا مرادُهُ الأولى، ويدخل فيه الطلاق الثالث أيضاً على طريق المراد الثانوي، فإن الطلاق أيضاً صورة وقِسْمٌ من تَرْكِ الرَّجْعَة، وإذن لا يكون قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا‏}‏ بياناً للطلاق المستأنف بل يكون بياناً لأحد قِسْمي ترك الرجعة، فالمراد هو ما يُفْهَم من النظم‏.‏ وما يدلّ عليه الحديث فهو داخل في مؤدَّاه أيضاً على طريق المراد الثانوي‏.‏ وهذا هو الطريق في جميع المواضع التي يُخالف الحديث النص، فإنه يُوَفي حق النظم القرآني، ويؤل في الحديث‏.‏

إذا أتْقنتَ هذا فاعلم أن الله تعالى لمَّا ذكر القيامة وأحوالها وكان المشركون مولَعين بالسؤال عنها تعّنتاً فقالوا‏:‏ ‏{‏أَيَّانَ مُرْسَهَا‏}‏ ‏(‏النازعات‏:‏ 42‏)‏ وأمثال ذلك، فحقَّق الله من أول الأمر أن لا يتكلم فيه بحرف، وأن لا يتعجل في تحصيل علمه وتفصيله، بل عليه أن يحفظ بقدر ما علَّمناه، وينتظرَ تفصيله فيما يأتي حسبما يريده الله تعالى شيئاً فشيئاً‏.‏ وما ذكره ابن عباس رضي الله تعالى عنه من تحريك شفتيه فهو مراد أيضاً لكن على طريق المراد الثانوي، وقد علمتَ أن قصر النَّظْم على ما ورد في شأن نزوله ليس بسديد، ولا سيما إذا خالف سياق القرآن، والله تعالى أعلم وعليه التُّكْلان‏.‏

باب

6- ‏(‏حدثنا عَبْدَانُ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ كان في الأصل تثنيةً ثم صار عَلَماً، وقيل‏:‏ بل عَلَمٌ من الأصل نحو عثمان، وذكر الزَّمْخَشَرِيّ عند الكلام على لفظ الرحمن‏:‏ إني كنت ذاهباً إلى الطائف فسألتُ عن البدوي هذا شخدف، قال‏:‏ بل شغنداف يريد به الشغدف الكبير فكذلك عبدان، وحيثما كان بعده عبد الله فهو ابن المبارك‏.‏ قال الحافظ‏:‏ من دأب المصنف رضي الله تعالى عنه أنه يذكر المتن في التحويل لآخر الطريقين، وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح‏:‏ أنه يكون لآخر الطريقين أو للسند العالي‏.‏

قلت‏:‏ ولعل ما ذكره الحافظ رضي الله تعالى عنه فهو عادة للبخاري خاصة، وأما ما ذكره ابن الصلاح فهو عادة عامة المحدثين، فالمتن ههنا لبشر بن محمد‏.‏

قلت‏:‏ وهو كذلك إلا أنه قد يوجد خلافه أيضاً، فإنه أخرجه في مقام آخر من لفظ عبدان أيضاً‏.‏

6- ‏(‏أجودُ ما يكون‏)‏ والجُودُ أبلغُ من السَّخَاء، ولذا يقال‏:‏ إن الله سبحانه جَوَادٌ ولا يقال سَخِيٌ‏.‏ واخْتُلِفَ في إعرابه، وأجاز ابن مالك الرفعَ والنصبَ‏.‏

قلت‏:‏ وهما صحيحان إلا أن رواية الكتاب بالرفع، وما قيل‏:‏ إن النصب لا يجوز لأن ما مصدرية، فلا يصح الحمل، فليس بشيء، فإنّ حرف المصدر لا يُخْرج الفعل عن حقيقته بحيث لا يبقى بينه وبين المصدر الصِّرْف فرق، ولهذا ذهب السيد الجُرجاني رضي الله تعالى عنه في بعض حواشيه إلى أنَّ المصدر المُنْسَبِك لا يتجرَّد عن معنى الفعلية بالكلية‏.‏ وفَرَّق ابن القَيِّم رضي الله تعالى عنه في «بدائع الفوائد» بين قولهم‏:‏ أعجبني قيامُك، وبين قولهم‏:‏ أعجبني أن تقوم‏:‏ بأن الأول يَصْلُح فيما حَصَل التعجبُ من نفس القيام، أو من بعض أحواله، بخلاف الثاني، فإنه يختص بما حصل التعجب من نفس القيام‏.‏ وأيضاً لا دلالة للأول على الزمان أصلاً بخلاف الثاني، فافترقا‏.‏

ومُحَصَّل الوجه المختار عندي‏:‏ أن ‏(‏أجود‏)‏ اسم كان، و‏(‏في رمضان‏)‏ حال، وحاصلاً خبرُه مقدَّر، والضمير في ‏(‏يكون‏)‏ للنبي صلى الله عليه وسلّم وليس في أجود ضمير‏.‏ وهذا جائز في المشتق كما قيل في سيد الأنبياء لا ضمير فيه، وكان أجود ما يكون النبي صلى الله عليه وسلّم حال كونه في رمضان حاصلاً، يعني كان جوده الكثير في رمضان‏.‏ وحينئذٍ لم يُحْكم فيه بكونه أجودَهم، ولكن المقصود منه أن جوده الكثير كان في رمضان، بخلاف صورة النصب، فهو كقولهم ضربي زيداً قائماً‏.‏ ‏(‏جبرائيل‏)‏ إيل أي‏:‏ الله، ومِيْكَا، وجِبْرَ، قريبٌ من معنى العبد، وحاصله عبد الله، وعَكَسَهُ بعضُهم أن إيل بمعنى العبد، ومِيْكَا وغيره بمعنى الله، وحينئذٍ شَاكِلَتُه كشاكله عبد الله وعبد الرحمن، حيث يبقى لفظ العبد ويتغير لفظ الله والرحمن‏.‏

قلت‏:‏ وهو القياس إلا أن علماءهم مصرِّحون بخلافه‏.‏ ‏(‏فيدارسه القرآن‏)‏ ودَارَسَهُ في سنةِ رِحلته مرتين‏.‏ أقول‏:‏ ما كتب عمر رضي الله تعالى عنه في التراويح إلى البلاد لعله مأخوذ من مثل هذه الأمور‏.‏

باب‏:‏ ذكر حديث هرقل

واعلم أنه لا بد لنا أوّلاً أن نُلقي عليك ما في الحديث من القصة إجمالاً ليتضِح عندك أنه كيف اتفق اجتماع أبي سفيان مع قيصر في بيت المقدس‏.‏ ثم نشرح لك الحديث‏.‏ فاعلم أن السلطنة العظيمة قديماً كانت في الروم وإيران، وأصل إطلاق الرُّوم كان على إيطالية وكانت تُدعى برومة الكبرى، وعامة إطلاق الرُّوم في القرآن والحديث على نصارى إيطالية ويونان وقسطنطينية، وقد يُطْلق على مطلق النصارى أيضاً، ثم إيطالية وقسطنطينية كانتا بمنزلة واحدة، فلما جرت بينهما ريح الاختلاف جعل الملك العظيم دار مملكته القسطنطينية، وكان مَلِكَهم في زمنه صلى الله عليه وسلّم هِرَقلُ، وكان نصرانياً‏.‏

ثم إن لَقَبَ ملك الروم كان قَيْصَر، وملك إيران كِسْرَى، فهرقلُ اسمُهُ وقَيْصَر لقبه، وكذا اسم كسرى إذ ذاك خسرو برويز، وهو ابن هُرْمُز بن أَنُو شِيْروَان، وكان كسرى لقبه، فوقع الحرب بينهما في زمن النبي صلى الله عليه وسلّم ولما كان قيصر نصرانياً وكسرى مجوسياً كان المسلمون يفرحون بفتح قيصر والمشركون بفتح كسرى‏.‏ وفي هذا وقعت قصة اشتراط أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه مع المشركين، وهو معروف، ويُستفاد منه جواز الفرح بفتح الكافر إذا كان أهونَ من الآخر، كما فَرِح المسلمون بفتح قيصر في مقابلة كسرى، فإنه كان مجوسياً وأشد كفراً من قيصر لكونه كتابياً‏.‏

وكان قيصر نذر لله تعالى إن كشف الله عنه جَوْرَ فارس ليمشي إلى إيليا حافياً، فلما فتح له أوفى بنذره ووصل إليه، وكان تُبْسَطُ له البُسُط، وتُلقى على طريقه الرياحين فيمشي عليها، وكان أبو سفيان إذ ذاك كافراً لم يُسْلِم، وأسلم السنة الثامنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلّم صالح المشركين في الحديبية إلى عشرة سنين، وأدرك منها أربعة، فغدروا فيها فغزاهم في السنة الثامنة، وأرسل في تلك المدة الخُطُوط إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، فصدَّق كثيرٌ منهم، غير أنهم لم يلتزم منهم طاعَته إلا النجاشيُّ‏.‏ أما كسرى مَلِك إيران فمن شقاوته مَزَّقَ كتابه صلى الله عليه وسلّم فلما بلغه خبره دعا عليه فَمُزِّقَ كلَّ مُمَزَّق، وكان هلاكه على يد ابنه‏.‏

وقصته‏:‏ أن ابنه عَشِق على امرأته شيرين فقتل أباه‏.‏ وكان شيرويته بن خسرو برويز مغرماً بالأدوية المقوية، فرأى يوماً دواء في حُقِّهَ، وزعم أنه دواء مقوي فأكله، وكان فيه سُمّ فهلك، فأصابهم دعاء نبي الله صلى الله عليه وسلّم ومُزِّقوا كلَّ مُمَزَّق‏.‏

وأما من كان صَدَّقه فَسَلِمُوا من الهلاك، ولو آمنوا به لأفلحوا كلَّ الفلاح، وكان هرقل محروماً حيث لم يؤمن به طمعاً في مُلْكِه، ولو آمن به لَسَلِمَ مُلْكُه‏.‏ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلّم أشار إليه أيضاً، حيث كتب «أَسْلِمْ تَسْلَمْ»، ولكنَّه اسْتَحْمَقَ وآثر الدنيا على الآخرة‏.‏

وبالجملة لمَّا كتب النبي صلى الله عليه وسلّم إلى الملوك كتب إلى قيصر أيضاً‏.‏ وأبو سفيان خرج في تلك المدة إلى الشام للتجارة فوافق مجيء قيصر، ثم كان أمرهما كما في الحديث‏.‏ وإنما بعثه بواسطة دِحْيَة الكَلْبِي، لأنه كان جميلاً، وكان الملوك إذ ذاك لا يقبلون الكتاب إلا من رسول جميل‏.‏ ثم إن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يبعث كتابه إلى هرقل بل بعث إلى عظيم بُصْرَى ليدفعه إلى هرقل، لأن ذلك هو الطريق في الملوك، فلما بلغه كتابه سأل هل فيهم من أهل قَرَابة النبي صلى الله عليه وسلّم فلما أُخْبِر به فتح الكتاب‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخر القصة‏.‏

7- ‏(‏عند ظهره‏)‏ لئلا يَسْتَحْيُوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب‏.‏

7- ‏(‏إن كذبني‏)‏ بالتخفيف أي إن نقل إلى الكذب‏.‏

7- ‏(‏يأثروا‏)‏ ينقلوا‏.‏

‏(‏سِجَال‏)‏ فكأنه شبه المحاربين بالمُسْتَقِين بالدلو ليستقي هذا دلواً وهذا دلواً‏.‏ وأشار أبو سفيان بذلك إلى ما وقع بينهم في غزوة بدر وغزوة أُحُد‏.‏ واعلم أن هرقل كان عالماً بالتوراة وأحوال الأنبياء فلم يجعل هزيمة أصحابه صلى الله عليه وسلّم دليلاً على عدم صدقه، لأنه كان يعلم أن موسى عليه السلام أول من انهزم في مقابلة العمالقة فقال‏:‏ يا رب ما هذا‏؟‏ قال‏:‏ لا أبالي، أي هذه سنتي قد يكون النبي غالباً وقد يكون مغلوباً‏.‏ نعم، إنما تكون العاقبة للأنبياء، ففتح الله في زمن يُوشَع عليه السلام‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُشْرِكُواْ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ واعلم أن الإشراك بالله على عِدّةُ أقسام‏:‏ الإشراك في الذات، والإشراك في الصفات، والإشراك في العبادة، والرابع‏:‏ الإشراك في الطاعة، أما الأوَّلانِ فظاهران‏.‏ وأما الثالث فيعم أن يكون عبادةَ الغير مع زعم كونه معبوداً، أو لا كبعض مشركي العرب حيث قالوا‏:‏ ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏ ‏(‏الزمر‏:‏ 3‏)‏ وأما الرابع، فنبه عليه الشاه عبد القادر رحمه الله، وهو أن يُتَّبِع في تحليل الحرام وتحريم الحلال غير الله سبحانه وتعالى، كما كان النصارى يتخذون أرباباً من دون الله، فهذا أيضاً نوع من الشِّرك، وسماه الشاه عبد القادر رحمه الله الشركَ في الطاعة، فاعلمه‏.‏

7- ‏(‏بالصلاة‏)‏ واعلم أن الألفاظ التي لُوحِظت فيها القيود عند الشرع حقائق عندي لا مجازَ فيها ولا عموم المجاز، كيف مع أن أبا سفيان في زمن الجاهلية يستعمل الصلاة في تلك الحقيقة حقيقة، وإن لم يَكْتَنِه حقيقتَها فالشيء لا يصير مجازاً بتبدُّل الهيئة، وإلا يلزم أن تكون صلاة الحنفية مجازاً عند الشافعية وبالعكس‏.‏ وكذا يلزم أن يكون إيمان أحدهما مجازاً عند الآخر، وهو باطل، خلافاً لبعضهم كما سيجيء‏.‏

7- ‏(‏وقد كنت أعلم‏)‏ قال المازني هذه الأشياء التي سأل عنها هِرَقْل ليست قاطعةً على النبوة، إلا أنه يحتمل أنها كانت عنده علامات على هذا النبي بعينه صلى الله عليه وسلّم لأنه قال بعد ذلك‏:‏ قد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظنّ أنه منكم‏.‏ وما أورده احتمالاً جَزَمَ به ابن بَطَّال وهو ظاهر كذا في «الفتح»‏.‏ وهو وإن صدقه صلى الله عليه وسلّم لكنه كافر لما في المسند لأحمد‏:‏ أنه كتب من تبوك إلى النبي صلى الله عليه وسلّم أني مسلم، فقال صلى الله عليه وسلّم «كذب بل هو على نصرانيته»‏.‏

قال الحافظ رحمه الله‏:‏ فعلى هذا إطلاق صاحب «الاستيعاب» أنه آمن، يعني به أَظْهَر التصديقَ، لكنه لم يستمر عليه ويعمل بمقتضاه‏.‏

7- ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم‏)‏ وإنما جمع بين اسم الله والرحمن، لأن اسم الله كان معروفاً عند بني إسماعيل، والرحمن عند بني إسرائيل، فجاء القرآن يجمع بينهما، وقال‏:‏ ‏{‏قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الاْسْمَآء الْحُسْنَى‏}‏ ‏(‏الإسراء‏:‏ 110‏)‏‏.‏

7- ‏(‏عظيم الروم‏)‏ فيه عدول عن ذكره بالمَلِك، لأنه معزول بحكم الإسلام، لكنه لم يُخْلِهِ من إكرام لمصلحة التألُّف‏.‏ كذا في «الفتح»‏.‏

7- ‏(‏إني أدعوك‏)‏ والدعاية كالشِّكَاية، وعند مسلم بداعية الإسلام، أي بالكلمة الداعية إلى الإسلام‏.‏

7- ‏(‏أسلم تَسْلَم‏)‏ لي فيه شبهةٌ، وهي أن هرقل كان مسلماً من قبلُ على دين عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام ولم تبلغه الدعوة إذ ذاك، فإن يكُ كافراً فمن حين الإنكار، فما معنى دعوته إلى الإسلام مع كونه مسلماً‏؟‏ لا يقال الإسلام على معناه اللغوي أي الإطاعة، لأن الذوق لا يقبله‏.‏ فالأوجه أن يقال‏:‏ إن الإسلام لقبٌ مخصوص بهذه الأمة، ولم يُطْلق على أحد من الأمم من حيث اللقبُ قال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ سَمَّكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ‏}‏ ‏(‏الحج‏:‏ 78‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 3‏)‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 85‏)‏، فإطلاقه وإن شَمِلَ الكلَّ إلا أنه صار وصفاً مشتهراً لهذه الأمة فقط، وحينئذٍ فالإسلام أضيقُ من الإيمان، فإنّ الإيمان لا يختص بأمة دون أمة إجماعاً، وهذا على عكس ما سيجيء في كتاب الإيمان ولكنهما نظران‏.‏

ثم إن تكلّف متكلِّفٌ أن الإسلام وإن كان عاماً لكنه يتحول إلى نبي الوقت في زمانه، وإذاً معناه‏:‏ أَسْلِم بنبي الوقت، لأن الإسلام قد انتقل إليه الآن أقول‏:‏ والأفصح حينئذٍ أن يقول‏:‏ أسْلِمْ لي، ليدلَّ على الانتقال والتحوُّل‏.‏

7- ‏(‏يُؤْتِكَ اللَّهُ أجركَ مرتين‏)‏ قال الحافظ‏:‏ والأجرُ مرتين لكونه مؤمناً بنبيه ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلّم ويحتمل أن يكون تضعيف الأجر له من جهة إسلامه، ومن جهة أن إسلامه يكون سبباً لدخول أتباعه‏.‏ وسيأتي التصريح بذلك في كتاب العلم إن شاء الله تعالى‏.‏ وقد اشتملت هذه الجملُ القليلة التي تضمَّنها كتابُ النبي صلى الله عليه وسلّم على‏:‏ الأمر بقوله‏:‏ «أَسْلِم»، والترغيب بقوله‏:‏ «تَسْلَم»، و «يُؤْتِكَ»‏.‏ والزَّجْرِ بقوله‏:‏ «فإن تَولَّيْتَ»، والترهيب بقوله‏:‏ «فإنَّ عليك»، وفي ذلك من البلاغة ما لا يخفى‏.‏

7- ‏(‏فإن تولَّيْتَ‏)‏ وإنما لم يَقُلْ‏:‏ فإن كفرتَ، لئلا يُغْضِبَه‏.‏

7- ‏(‏اليريسين‏)‏ وفيه لغات، ومعناه الأَكَّارِين أي الزَّرَّاعين، ومرّ عليه الطحاوي في مشكله وتكلم كلاماً جيداً وحاصله‏:‏ أن المراد منه الرعايا وسكانُ بلده‏.‏ بقي أنه يخالف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏}‏ ‏(‏الأنعام‏:‏ 64‏)‏ فإنها تدل على أنَّ أحَداً لا يحمل إثمَ أحدٍ، قلت‏:‏ الإثم إثمان‏:‏ إثم التسبُّب وإثم المباشرة، وإثم التسبُّبب يكون عليه لأنه مِن فعله، ولا يخالف الآية، فإنها في إثم المباشرة، والوجه عندي أن معناه إثم إهلاكهم عليك، وأما إثم كفرهم فعليهم‏.‏

7- ‏(‏‏{‏سَوَآء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ‏}‏‏)‏ فإن قيل‏:‏ إن القوم كانوا مشركين، وكانوا يعبدون غير الله، فكيف قال‏:‏ إن التوحيد سواء بيننا وبينكم‏؟‏

قلت‏:‏ إنما خاطبهم باعتبار مزعومهم ودعاويهم، فإن النصارى أيضاً يدَّعون التوحيد مع شركهم الجليّ، وكذلك أكثر المشركين لا يؤمنون بربهم إلا وهم مشركون، ولكنهم يدَّعون بألسنتهم التوحيد، فدعاهم إلى التوحيد الصحيح بعد اشتراكهم فيه بحسب الصورة على حد قوله‏:‏ ‏{‏إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ‏}‏ ‏(‏إبراهيم‏:‏ 11‏)‏ في جواب قولهم‏:‏ ‏{‏إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا‏}‏ ‏(‏إبراهيم‏:‏ 10‏)‏ فهذا مجاراة مع الخصم‏.‏

7- ‏(‏ابن أبي كَبْشَة‏)‏ تعريض بالنبي صلى الله عليه وسلّم فإن أبا كبشة كان رجلاً في الجاهلية ترك دين آبائه وعبد الشعرى، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلّم انتقل إلى دين آخر وترك دين آبائه،- والعياذ بالله مما أرادوه ، وقيل‏:‏ إن أبا كبشة أحدُ أجداده، وعادةً العرب إذا انتقصت أحداً نَسَبَتْ إلى جَدَ غامض‏.‏

7- ‏(‏ملك بني الأصفر‏)‏ والمراد منهم الرُّوم، وجعلهم العيني من ذرية إبراهيم، وليس بصحيح، وقد فصَّلته في عقيدة الإسلام في فصل مستقل‏.‏ وأبو سفيان لم يكن إذ ذاك مسلماً، لأنه أسلم في فتح مكة، ثم صار من مخلصي الصحابة رضي الله تعالى عنهم‏.‏

«وكان ابن الناطوري» هذا مقولة الزهري، وهذه القطعة سمعها الزُّهري من ابن الناطور بلا واسطة، ولعله حين أسلم وكان ابن الناطور عاملاً لهرقل باعتبار منصب المملكة وكان أُسْقُفًّا بحسب العهدة المذهبية، فإن المناصب المذهبية عند النصارى عديدة‏:‏ بابا، وبطريق، وكاهن، وسقف، وبوب، راجع له «المقدمة» لابن خَلدون‏.‏

7- ‏(‏صاحب إيلياء‏)‏ وتمسك منه الشافعية على جواز الجمع بين معاني المشترك، فإن معنى الصاحب المصاحب والحاكم، وقد جمع بينهما ههنا، لأن صاحب إيلياء هو الحاكم، وصاحب هرقل بمعنى المصاحب، يلزم الجمع بين المعنيين‏.‏ قلتُ‏:‏ بل هو بمعنى واحد، والفرق باعتبار المتعلَّق، فصاحب بلد يقال له الحاكم، وصاحب رجل يقال له المصاحب، فهذا الفرق راجع إلى المتعلق دون نفس معنى اللفظ، وترجمته في الهندية ‏(‏إيليا والا أور هرقل والا‏)‏‏.‏ ثم إن الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى صرح أن المسألة المذكورة لم يصرح بها الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه، وإنما أخذها الشافعية من بعض مسائله‏.‏ ولو سلمنا فلنا أن نقول‏:‏ إن الحديث ليس بحجة في مثل هذه الأمور، لأن الرواية بالمعنى قد فَشَتْ فيها، فلا يُؤمن بألفاظه من جهة النبي صلى الله عليه وسلّم بتاً‏.‏

7- ‏(‏حَزَّاءً ينظر في النجوم‏)‏ أي كاهناً، فالكهانة تستند تارة إلى الشياطين، وتارة تُستفاد من أحكام النجوم، والحَزَّاء في أصل اللغة الكاهن بالتخمين، أما مَنْ ينظر في النجوم فيقال له المنجِّم، ثم إن الشرع نهى عن الاعتماد عليهم قال الحافظ‏:‏ فإن قيل‏:‏ كيف ساغ للبخاري هذا الخبر المُشْعِر بتقوية أمر المنجمين والاعتماد على ما تدلّ عليه أحكامهم‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه لم يقصِدُ ذلك، بل قَصَدَ أن يُبيِّن أن الإشارات بالنبي صلى الله عليه وسلّم جاءت من كل طريق، وعلى لسانِ كل فريق‏:‏ من كاهنٍ، أو منجمٍ مُحقَ أو مُبطلٍ، إنسي أو جني‏.‏ وهذا من أبدع ما يُشير إليه عالمٌ أو يَجْنَحُ إليه محتج‏.‏

تأثيرات النجوم

واعلم أنه لا يُنكر عن آثارها الطبيعية كالحرارة والبُرودة، لكن لا أثر لها في السعادة والنُّحوسة عند جمهور العلماء خلافاً لبعضهم‏.‏

7- ‏(‏يختَتِنُون‏)‏ وكان الكفار أيضاً يختتنون تبعاً للملة الحنيفة‏.‏ وكانت الخَتْنَة في دين عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام أيضاً لكن محى عنه البولوس‏.‏

7- ‏(‏ملك غسان‏)‏ هو صاحب بُصْرى‏.‏

7- ‏(‏فسجدوا له‏)‏ وكانت السَّجْدةُ عند بني إسرائيل وهي الانحناءُ لغةً‏.‏ ثم الانحناءُ أيضاً جُعِل مكروهاً تحريماً في شريعتنا‏.‏

7- ‏(‏فكان ذلك آخر شأن هرقل‏)‏ لما كان أمر هرقل عند كثير من الناس مستبهماً أشار الراوي إلى آخر حالِهِ‏.‏

كتاب‏:‏ الإِيْمَان

الإيمانُ وَمَعْنَاهُ اللُّغوي‏:‏

الإيمان في اللغة‏:‏ عبارة عن التّصديق، وقد يجيءُ بمعنى الوثُوق، لأنه إفعال من الأمن، وهمزة الإفعال إذا دخلت على الفعل المتعدي، فإما أنْ يعديه إلى مفعولٍ ثانٍ، أو يجعله لازماً على معنى الصَّيرورة‏.‏

فالأول، أي التَّصديق، منقولٌ من الأَفعال المتعدية، يقال‏:‏ آمنته فلاناً، أي جعلتُه آمناً منه، وآمَنْته غيري، أي جعلت غيري آمناً منه، وكلا المعنيين اللغويين، معنيان حقيقيان لِلَفظ الإيمان، وُضِعَ أولاً لجعل الشيء أمناً من أمر، ثم وُضِع ثانياً لمعنىً يناسبه وهو التَّصديق، فإنك إذا صَدَّقْتَ المخبر فقد أمنته من تكذيبِكَ إياه‏.‏ وتعدِيتُهُ بالباء لتضمِينه معنى الاعتراف، فإنك إذا صدَّقت شيئاً فقد اعترفت به‏.‏

والمعنى الثاني منقول من الأفعال اللازمة، بمعنى صار ذَا أمن، فيتعدى بالباء، ليقال‏:‏ آمن به، أي وثِقَ به، لأن الواثِقَ بالشيء صار ذا أمنٍ منه، وحينئذٍ لا يحتاج إلى التَّضمين‏.‏ وأضاف الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى على معناه اللغوي، فبدأ قيداً آخر، وقال‏:‏ إن الإيمان اسم للتَّصديق بالمغيبات خاصة، ولا يطلق الإيمان على غير ذلك، فلا يقال‏:‏ آمنت بذلك في جواب من قال‏:‏ السماء فوقنا، ولذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 3‏)‏، فقيَّد الإيمانَ بالغيبِ، لأنه لا يتعلق إلا به، وقال‏:‏ إن الإيمانَ هو تصديق السامِعِ للمخاطب، واثِقَاً بأمانته، ومعتمداً على دِيانته‏.‏

وأصلُ الإيمان تبجيل الذاتِ وتعظيمها، ثم استعمل في التصديق مطلقاً، ويتعلق بالذوات والأخبار‏.‏ فإن تَعَلَّقَ بالذات يُؤْتَى بالباء في صِلته، وإن تعلق بالأخبار فباللام لتضمينه معنى الإقرار، وعليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا‏}‏ ‏(‏يوسف‏:‏ 17‏)‏ أي بمقر لنا، ولم يقولوا‏:‏ بنا، لأن المرادَ التصديقُ بخبرهم دونَ ذَوَاتِهِم، وفي خلافه يكون التَّضمين، ولم نجد تعديتُهُ بعلى إلا ما عند مسلم‏:‏ ‏(‏ما مِنْ نبيَ إلا أُتِي من الآيات ما مثلُهُ آمن عليه البشرُ‏)‏ أي آمن معتمداً عليه البشر‏.‏

ثم الكفر لغةً‏:‏ الستر وجَحْدُ النِّعمة وتناسيها، وحينئذٍ لم يبق التقابل بين الإيمان والكفر لغة إلا باعتبار اللازم، فإنّ جحود النعمةِ والتناسي لا يجتمع مع التَّصديق بأحد، وتصديقه لا يجتمع معه جحود نُعمتِهِ، وأما ضِدُّه الصريح فهو الخيانة، كما أن ضِدُّ الكفر هو الشكر‏.‏ ثم ههنا ألفاظ ينبغي الفرق بينها فالعلم دانستن والتصديق إن كان صفة القضية فمعناه‏:‏ راست داشتن وإن كان صفة القائل فمعناه‏:‏ راست كوداشتن وباوركردن والمعرفة شناختن واليقين إزاحة الشَّكِ وتحقيق الأمر، والفِكْر انديشيدن والفهم فهميدن فهذه ألفاظ ميزها أهلُ اللغة أي تمييز، فَرَاعِها تغنيك عن حدودِهِم الطويلة‏.‏

الإيمانُ وتَفْسِيْرُهُ عند الشَّرْع

قال عامة الفقهاء والمتكلمين‏:‏ إن الإيمان تصديق بأمور مخصوصة عُلِم كونُها من الدين ضرورة‏.‏ فلنتكلم أولاً على معنى التَّصديق وما يتعلق به، ثم لنبحث عن معنى الضرورة فالتَّصديق هو الإذعان عند الحكماء، وهو إما إدراك أو من لواحق الإدراك، والحق عندي هو الثاني ثم التَّصديق قد يجتمع مع الجُحود أيضاً وهو كفرٌ قطعاً قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً‏}‏ ‏(‏النمل‏:‏ 14‏)‏، وقال تعالى أيضاً‏:‏ ‏{‏يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءهُمْ‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 146‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما جاءهم ما عَرَفُوا كفورا به‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 89‏)‏ فانظر كيف اجتمع اليقين والإذعان، والمعرفة مع الجحود فيلزمُ على التعريفِ المذكورِ أن يجتمع الإيمان مع الجحود، واللاّزمُ باطلٌ، ولذا جعل الفقهاء الإقرارُ شرطاً للإيمان، لإخراج تصديق الجاحدين، فإن الجاحد لا يُقر بلسانه البتة، ومن أقر باللسان لا يمكن منه الجحود، فكأنهم فهموا أن الإقرار مقابلٌ للجحودِ فجعلوه شرطاً، أو شطراً، احترازاً عن مثل هذا اليقين والمعرفة‏.‏ وحينئذٍ فالجواب عندهم‏:‏ إن هؤلاء وإن كانوا مستيقنين به، لكنهم لم يكونوا يقرُّون بألسنتهم، بل كانوا يجحدون، فلم يعتبر تصديقهم، ولم يُحكم عليهم بالإيمان، لأن التصديق المعتبر ما كان مع الإقرار باللسان ولم يوجد، وهو الفاصل في الباب‏.‏

واختلف فيه صدر الشريعة رحمه الله تعالى، والعلامة التَّفْتَازَاني رحمه الله تعالى، فقال صدر الشريعة رحمه الله تعالى‏:‏ إن التصديق المنطقي أعم من الاختياري والاضطراري، والمعتبر في الإيمان هو الاختياري فقط؛ لأن الإيمان مُثَاب عليه، والثواب لا يترتب إلا على فِعله الاختياري، فما هو معتبر في باب الإيمان ليس بجامعٍ مع الجحود، وما هو بجامع معه ليس بمعتبر في الإيمان، وكأنه فَهِمَ أن الرجل إذا صدّق أحداً عن اختياره وطوعه، بدون إكراه مُكْرِه، لا يتمكّن على الجحود‏.‏ والذي يجحدُ به لا يُمكنه التَّصديق عن اختياره‏.‏ نحو أن يقعَ بصركُ على الجِدار، ويحصلُ لك الإذعان بوجوده اضطراراً، فهذا النوع من اليقين يمكن أن يجامع الجحود، فإنه ليس من فعله، بخلاف ما صدر عن اختياره، فإنه فعله، والظاهر أنه إذا فعل فعلاً عن اختياره لا يفعل نقيضه إلا أن يكون به جِنَّة، أو يكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً‏.‏

وادعى التفتازاني أن تلك المعرفة الحقة اليقينية المجامعة مع الجحود ليست بتصديق، بل هي من التصورات والتصديق اسمٌ لليقين المجامع مع التسليم، فكأنه أخرجَ تصديقَ الجاحدين عن مُسَمَّى التصديق ومتناولاته رأساً، وحينئذٍ ساغَ له أن يقول‏:‏ إن المعتبر في الإيمان هو التصديق، وما وُجِد منهم هو اليقين المجامع مع الجحود، وهو تصورٌ وليس بمعتبر في الإيمان، وكأنه فَهِمَ أن التّصديق إذا قارنه التسليم لا يكون إلا اختياراً‏.‏

وحينئذٍ فالتصديق عنده مساوٍ للإيمان، بخلافه على الأول، فإنه كان أعم من الإيمان‏.‏

والذي يظهر عندي أن الصواب مع صدر الشريعة، فإن أرباب المعقول لعلهم لا يحكمون على تلك المعرفة اليقينية بكونها تصوراً، والظاهر أنها تصديق عندهم ثم العجب من صدر الشريعة كل العجب حيث اعترض على شيخ التسليم في «باب الزكاة» من «شرح الوقاية» بقوله‏:‏ فانظر إلى هذا الذي أدرج ركناً زائداً في الإيمان‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ كيف، مع أن صدر الشريعة أيضاً قيدَ التصديقَ بالاختياري، وهذا الاختياري ليس أمراً وراء التسليم، على أنه مصرحٌ به في القرآن أيضاً‏:‏ ‏{‏فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 65‏)‏ فهذا التسليم هو الذي أضافه الشيخ رحمه الله، فلم يكن أمراً زائداً، كما ألزمه صدر الشريعة‏.‏

والحاصل‏:‏ أن الفقهاء رحمهم الله شرطوا الإقرار لإخراج مثل هذا التصديق عن مُسمّى الإيمان‏.‏ والشيخ الهروي‏:‏ التسليم‏.‏ وصدر الشريعة وإن عَمَّم التصديق أولاً، لكنه خصصه آخراً، وأراد منه الاختياري فقط، والتفتازاني خصصه من أول الأمر، وأخرجه عن مُسمّى التصديق ابتداءً، فلم يحتج إلى التخصيص، فالبيت واحدٌ وتلك أبوابه فأته من أيها شئت، ولعلك علمت مما ذكرنا مرامى الفقهاء والعلماء، وأنهم لماذا يختلفون في العبارات وماذا يريدون منها‏.‏

ثم رأيتُ حكايةً في «الفتح» عن أحمد رحمه الله تعالى لا أرى في نقلها بأساً، وأريد أن أنبه على ما استفدت منها‏.‏ قال أحمد رحمه الله‏:‏ بلغني أن أبا حنيفة رحمه الله يقول‏:‏ إن الإسلام يهدم ما كان قبله، وكيف يكون هذا مع أنه رُوي عن ابن مسعود في الصحيحين، أن المرء إذا أسلم فأحسن في إسلامه، فهو كفارة له، وإلا فيؤخَذُ بالأول والآخر، فإنه يدل على أن الإسلامَ لا يهدم ما كان قبله مطلقاً، بل تبقى عليه المؤاخذة بعده أيضاً‏.‏ واستفدت منه أن الإيمان عند أحمد رحمه الله كالتوبة الكلية، وهي عزمٌ على الإقلاع عن المعصية فيما يأتي، فمن أحسن بعد إسلامه، فقد صحت توبتُهُ وصار إسلامه كفارةً له، ومن أساء بعده ولم يقلع عن المعصية لم تصح توبته، فيؤخذ بالأول والآخر، وإذا كان الإسلام عنده كالتوبة، يكون وسيلة للأعمال، والأعمال مقصودة، فإنها المقصودة من التوبة، وإليه يشير ما نُقل عنه، أن الإيمان معاقدةٌ على الأعمال، أي أنه عقدٌ على التزام الطاعات على نفسه، والعقد يكون وسيلةً للمعقودِ عليه‏.‏

والإمام الهمام رحمه الله تعالى جعله من أكبرِ الأعمال وأساسها، ومقصوداً لذاته غير وسيلة لشيء‏.‏ ثم لا اعتراض عليه بحديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، فإنه إن كان عند أحمد رحمه الله حديث ابن مسعود رضي الله عنه، فعنده أيضاً حديث صريح عند مسلم‏:‏ «إن الإسلام يَهدِمُ ما كان قَبْلَه» فلو كان عند أحمد رحمه الله محمل لحديث الهدم، فيمكن أن يكون عند الإمام الأعظم رحمه الله أيضاً محملٌ لحديثه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

بحث في معنى الإِقْرار

واخْتُلِفَ في الإقرار، فقال المرجئة‏:‏ إن الإقرار ليس بشطرٍ ولا شرطٍ للإيمان، فالتصديق وحده يكفي للنجاة عندهم، حتى اشتهر القول عنهم‏:‏ بأنه لا تضرُ مع الإيمان معصية‏.‏ وعلى خلافهم الكرَّامية، فإنهم زعموا أن الإقرار باللسان يكفي للنجاة، سواءٌ وُجِدَ التصديق أم لا، فكأنهما على طرفي نقيض‏.‏ وعندنا لا بد من الإقرار أيضاً، إما شطراً أو شرطاً‏.‏

قال التفتازاني‏:‏ إن الإقرار لو كان شرطاً لإجراء الأحكام فلا بد أن يكون على وجه الإعلان والإظهار للإمام وغيره من أهل الإسلام، وإن كان لإتمام الإيمان، فإنه يكفي مجرد التكلم به وإن لم يظهر على غيره‏.‏ ومن جعل الإقرار ركناً كالتصديق فرّق بينهما بكون التصديق لا يحتملُ السقوطَ في حال، بخلاف الإقرار، فإنه يسقطُ عند الأعذار‏.‏ وفي «المسايرة» وجَعْلُ الإقرار بالشهادتين ركناً من الإيمان هو الاحتياط بالنسبة إلى جعله شرطاً خارجاً عن حقيقة الإيمان‏.‏ ثم إنه شرطاً كان أو شطراً، لا بد منه عند المطالبة عند الكل، فإن طُولِبَ به ولم يُقر، فهو كافر كفر عناد، وهو معنى ما قالوا‏:‏ إنّ تَرْك العناد شرطٌ في الإيمان‏.‏ كذا صرح به ابن الهمام رحمه الله‏.‏

تنبيه‏:‏ وههنا إشكالٌ يردُ على الفقهاءِ والمتكلمين وهو أن بعضَ أفعال الكفر قد توجد من المُصدِّق، كالسجود للصنم والاستخفاف بالمصحف، فإن قلنا‏:‏ إنه كافر، ناقض قولنا‏:‏ إن الإيمان هو التصديق‏.‏ ومعلومٌ أنه بهذه الأفعال لم ينسلخ عن التصديق، فكيف يُحْكم عليه بالكفر‏؟‏ وإن قلنا‏:‏ إنه مسلم، فذلك خلافُ الإجماع‏.‏ وأجاب عنه الكَسْتلِّي تبعاً للجُرْجَاني‏:‏ أنه كافر قضاءً، ومسلم دِيَانَة‏.‏ وهذا الجواب باطلٌ مما لا يُصْغى إليه، فإنه كافر دِيَانة وقضاءً قطعاً، فالحق في الجواب ما ذكره ابن الهمام رحمه الله تعالى، وحاصله‏:‏ أن بعض الأفعال تقوم مَقَام الجحود، نحو العلائم المختصة بالكفر، وإنما يجب في الإيمان التبرؤ عن مثلها أيضاً، كما يجب التبرؤ عن نفس الكفر‏.‏ ولذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَنِكُمْ‏}‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 66‏)‏، في جواب قولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ‏}‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 65‏)‏، لم يقل‏:‏ إنكم كذبتم في قولكم، بل أخبرهم بأنهم بهذا اللعب والخوض اللذين من أخصِّ علائم الكفر خلعوا رِبْقَةَ الإسلام عن أعناقهم، وخرجوا عن حِمَاهُ إلى الكفر، فدل على أنّ مثلَ تلك الأفعال إذا وجدت في رجل يُحكم عليه بالكفر، ولا يُنظر إلى تصديقه في قلبه، ولا يلتفت إلى أنها كانت منه خوضاً وهزأً فقط، أو كانت عقيدة‏.‏ ومن ههنا تسمعهم يقولون‏:‏ إن التأويل في ضروريات الدين غيرَ مقبول، وذلك لأن التأويلَ فيها يُساوِق الجحود وبالجملة‏:‏ إن التصديق المجامعُ مع أخصِّ أفعال الكفر، لم يعتبره الشرع تصديقاً، فمن أتى بالأفعال المذكورة فكأنه فاقدٌ للتصديق عنده وأوضحه الجصَّاص، فراجعه‏.‏